ظلت التجارة العالمية مكوناً هاماً من مكونات الاقتصاد على مدى العقود القليلة الماضية، فقد شكلت حوالي 43% من الناتج الإجمالي العالمي قبل جائحة كوفيد-19. تقليدياً، لا يحدث نمو أو تراجع في الناتج الإجمالي العالمي دون حدوث تغيرات كبيرة في القيمة والحجم الإجمالي للتجارة بين الدول. لذلك، تعتبر التجارة مقياساً جيداً لسلامة الأوضاع الكلية للاقتصاد العالمي، وذلك في حالة عدم ظهور صدمات خارجية من شأنها أن تحدث اختلالات.
في وقت سابق من العام الماضي، عندما تسببت تداعيات الجائحة في حدوث صدمات اقتصادية سلبية غير مسبوقة، تراجعت التجارة العالمية، مع انخفاض تدفقاتها بنسبة 16%. ولكن مع إعادة فتح الاقتصادات الكبرى تدريجياً وقيام صناع السياسات بدعم الطلب بحوافز قوية، تعافى نمو التجارة العالمية بقوة، بل تجاوز بكثير الاتجاه العام الذي كان سائداً قبل الجائحة. في الواقع، يتجاوز حجم التجارة العالمية حالياً الاتجاه العام طويل الأجل بنسبة 5%، مما يشير إلى الدعم القوي الناتج عن التعافي الاقتصادي.
وفي حين أن هذا التعافي القوي كان تطوراً إيجابياً، فإننا نتوقع نمواً معتدلاً في معدلات التجارة العالمية خلال الفترة القادمة. وهناك ثلاث نقاط رئيسية تدعم وجهة نظرنا هذه.
أولاً، كان نمو التجارة العالمية مدفوعاً بالطلب الاستثنائي على السلع المادية أثناء الجائحة، المدفوع بالمحفزات الاقتصادية والتغيير المؤقت في أنماط الإنفاق بعيداً عن الخدمات، حيث أدت تدابير التباعد الاجتماعي إلى إغلاق جزئي للأنشطة التي تعتمد على التعامل وجهاً لوجه والاقتصاد القائم على الخدمات. لكن كلا العاملين يتراجعان ويعكسان مسارهما بالفعل حالياً. ويؤدي التعافي الاقتصادي القوي ونجاح حملات التطعيم الشاملة إلى سحب تدريجي للحوافز الاقتصادية وإعادة التوازن في أنماط الإنفاق بالعودة إلى الخدمات. علاوة على ذلك، فإن الطلب على السلع المادية، مثل الأجهزة الإلكترونية ومعدات بناء المنازل، "تم سحبه إلى الأمام" أثناء فترة تفشي الجائحة، مما يعني أنه قد تكون هناك فترة طويلة من ضعف الطلب على هذه السلع في المستقبل القريب.
ثانياً، تشير البيانات ذات التردد العالي من أهم الاقتصادات الرئيسية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) إلى اعتدال في نمو التجارة العالمية. وسجلت استطلاعات مؤشر مديري المشتريات لشهر يونيو 2021 أول تباطؤ كبير في طلبات التصدير الجديدة من الاقتصادات المتقدمة منذ فترة الركود خلال العام الماضي. ويتماشى هذا الأمر مع التغييرات في الطلبات الجديدة على السلع المادية في آسيا، وخاصة تايوان وكوريا والصين، حيث بدأ الطلب على الأجهزة الإلكترونية في الاستقرار في مايو. وتشير مثل هذه التحركات إلى تباطؤ الطلب العالمي الإجمالي.
ثالثاً، بدأت توقعات المستثمرين بشأن نشاط النقل، وهو مؤشر رئيسي رائد للنمو المستقبلي في التجارة العالمية، تشير أيضاً إلى اعتدال في الطلب على السلع المادية. فقد شهد مؤشر داو جونز للنقل، وهو مؤشر للأسهم يتألف من شركات الطيران والشاحنات والنقل البحري والسكك الحديدية وشركات التوصيل، والتي يسبق أداؤها أداء الصادرات بمقدار 2 إلى 3 أشهر، انخفاضاً كبيراً خلال الأسابيع القليلة الماضية. ولا يشير المؤشر فقط إلى توقف مؤقت في تسارع نمو التجارة العالمية، بل إلى تباطؤ كبير في نموها خلال الأشهر المقبلة.
بشكل عام، يعتبر النمو القوي في التجارة العالمية دليلاً على قوة التعافي في الاقتصادات الرئيسية خلال الأرباع القليلة الماضية والعوامل الفريدة المرتبطة بالوباء، مثل الطلب الاستثنائي على السلع المادية حيث تم إغلاق اقتصاد الخدمات جزئياً. ومع نضوج عملية التعافي العالمي و"انفتاح" الاقتصادات، بما يتيح عودة كاملة لقطاع الخدمات، تتجه التجارة العالمية إلى الاعتدال. ومع ذلك، فإن مثل هذا الاعتدال سيكون مفيداً في هذه المرحلة من الدورة الاقتصادية العالمية. وسيكون مؤشراً على أن أنماط الإنفاق في طريقها إلى "العودة إلى طبيعتها" كما أنه سيخفف الضغط على سلاسل التوريد المضطربة.
يمكنك أيضاً تنزيل نسخة PDF من التقرير عربي و English