أثبتت عشرينيات القرن الحالي أنها ستكون فترة من الاضطرابات المصحوبة بصدمات وعدم يقين. فبمجرد أن بدأ الاقتصاد العالمي يطوي صفحة جائحة كوفيد-19، وقع حدث مهم آخر له عواقب جيوسياسية واقتصادية سلبية، وهو الصراع الروسي الأوكراني. ورغم أن بذور الصراع بين روسيا وأوكرانيا ظلت تنمو لسنوات، إلا أن الخلافات الثنائية بينهما بدأت تتصاعد في عام 2021، قبل اندلاع حرب مفتوحة بين البلدين في أواخر فبراير 2022.
وفي أعقاب الغزو العسكري الأولي، قررت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعم أوكرانيا من خلال إلحاق أضرار اقتصادية شاملة بروسيا عبر عمليات الحظر والعقوبات والجزاءات التجارية. ونتيجة لذلك، تعطل الاقتصاد الروسي بسرعة وانفصل إلى حد كبير عن بقية العالم في أقل من شهر.
في هذه المقالة، نسلط الضوء على النقاط الرئيسية حول العواقب الاقتصادية للصراع الروسي الأوكراني.
من الناحية الأولى، يبدو أن التأثير المباشر لهذا الصراع على الطلب العالمي محدود نوعاً ما، نظراً لحجم الاقتصادين الروسي والأوكراني. في الواقع، مع ناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 1.5 تريليون دولار أمريكي وتدفقات تجارية تبلغ 600 مليار دولار أمريكي، تمثل روسيا أقل من 2% من النشاط الاقتصادي العالمي أو التجارة العالمية. أما أوكرانيا، التي يبلغ حجم اقتصادها 155 مليار دولار أمريكي وتبلغ تدفقاتها التجارية 100 مليار دولار أمريكي، فهي تمثل نسبة أقل من ذلك بكثير. لذلك، بغض النظر عن حجم التراجع الذي قد يسببه الصراع في أي من البلدين، من المرجح أن يكون تأثيره المباشر على الطلب صغيراً على مستوى العالم.
من ناحية أخرى، على الرغم من الحجم الاسمي المتواضع لكلا الاقتصادين، فإن قاعدة مواردهما الطبيعية كبيرة ويمكن أن تؤثر الاضطرابات بشكل غير مباشر على الاقتصاد العالمي من خلال صدمات الإمداد في أسواق السلع الأساسية. وتعد روسيا أكبر دولة عابرة للقارات في العالم، وتمتد على إحدى عشرة منطقة زمنية وتتضمن مخزونات ضخمة من الموارد الطبيعية، مثل النفط الخام والغاز الطبيعي والمعادن الثمينة والأراضي الصالحة للزراعة. في الواقع، تعد كل من روسيا وأوكرانيا منتجين مهمين للأسمدة والقمح ومنتجات رئيسية أخرى لصناعة المواد الغذائية. ومن ثم، فإن الأعمال العسكرية الروسية الأوكرانية والعقوبات تتسبب في تدمير الإمدادات على نطاق واسع، مما يضغط بشدة على أسواق السلع الأساسية. وسيؤدي هذا الأمر إلى ارتفاع معدل التضخم العالمي وانخفاض الدخل المتاح عبر البلدان، مما سيؤثر سلباً على الطلب. وسيؤدي ذلك بدوره إلى زيادة تكثيف "ضغوط الركود التضخمي"، أي الاتجاه نحو انخفاض النمو وارتفاع الأسعار. ومن المرجح أن تعاني الأسواق الناشئة الضعيفة من تدهور الأوضاع المالية العامة والحسابات الجارية. في الحالات القصوى، يمكن أن تواجه البلدان منخفضة الدخل نقصاً شاملاً في الغذاء ونشوب صراعات أهلية.
علاوة على ذلك، في حين أن التكامل المالي بين روسيا وبقية العالم صغير نسبياً، فإن تأثير ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتدمير الأصول يمكن أن يكون ذا أهمية كبيرة لشركات الاستثمار في السلع الأساسية وشركات الوساطة والبنوك ذات الانكشاف المباشر على روسيا. وبدأت بالفعل بعض علامات الإجهاد المالي في الظهور، حيث تتسع هوامش أسواق المال، وتعاني شركات الاستثمار في السلع الأساسية في الشرق الأقصى من طلبات تغطية الهامش بمليارات الدولارات الأمريكية. وإذا استمرت مثل هذه المشكلات، فقد تكون هناك موجة مفاجئة من خفض الديون في أسواق السلع الأساسية، بسبب اضطرابات العرض والتأثير السلبي الجانبي. ويمكن أن تؤثر الأحداث الائتمانية المتتالية في أسواق السلع على البنوك والمؤسسات الأخرى التي تقدم التمويل لمثل هذه الأنشطة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتكبد بنوك أوروبا الشرقية التي لديها انكشاف على روسيا خسائر كبيرة، مما سيضع ضغوطاً على النظام المالي الأوروبي. وبالتالي، يمكن أن تؤدي الصدمات المالية السلبية إلى زيادة الضغوط السلبية الحالية على النمو العالمي.
وبشكل عام، فإن الإجراءات العسكرية الروسية الأوكرانية والعقوبات تؤدي إلى حدوث صدمات كبيرة في جانب الإمداد، وليس في جانب الطلب، من الاقتصاد العالمي. ويحدث هذا الأمر عبر أسواق السلع الأساسية، مما يؤدي إلى تصاعد التضخم ونقص الموارد في جميع أنحاء العالم. كما تتزايد المخاطر المالية بسبب الآثار المباشرة وغير المباشرة للصدمات على المؤسسات المالية وتجار السلع.
.يمكنك أيضاً تنزيل نسخة PDF من التقرير عربي و English