QNB

التداعيات الاقتصادية للنسخة الثانية من سياسة "أمريكا أولاً"

نشر يوم : Sun, 10 Nov 2024

كانت الانتخابات الأميركية على رأس الأجندة العالمية. ورغم أنها تعتبر حدثاً محلياً، إلا أن السياسات الداخلية الأميركية تخلف تأثيراً عالمياً وسوف تحدد وتيرة نمو الاقتصاد العالمي على مدى السنوات الأربع المقبلة.
في الواقع، من المعروف على نطاق واسع أن الاقتصاد الأميركي لا يشكل أهمية بالغة لتحقيق الازدهار الأميركي طويل الأمد فحسب، بل إنه يلعب أيضاً دوراً أساسياً في تحقيق الاستقرار العالمي. ويستفيد العالم، بشكل مباشر أو غير مباشر، من البنية الأساسية الواسعة للسوق الأميركية، ونظامها المالي العميق، وأطرها التنظيمية القوية. ومع التوقعات ببلوغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للولايات المتحدة 29.2 تريليون دولار أمريكي في عام 2024، من إجمالي 110.1 تريليون دولار أمريكي للاقتصاد العالمي، فإن الولايات المتحدة تعمل على نطاق لا مثيل له في القوى الاقتصادية الأخرى.
QNB
ومن هذا المنطلق، يجب أن نفهم تداعيات الانتخابات الأميركية على الاقتصاد العالمي، خاصة وأن الرئيس المنتخب دونالد جيه ترامب لديه أجندة اقتصادية شاملة. 
بعد أن شغل منصب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة في الفترة 2017-2021، لا يعتبر ترامب حديث عهد بالرئاسة. ولذلك فإن أجندته الاقتصادية معروفة جيداً للمستثمرين والمحللين. تؤيد أجندة ترامب الاقتصادية، التي ترتكز على شعاري "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" و"أميركا أولاً"، الأعمال التجارية، وتدفقات رؤوس الأموال، والتجارة، والتصنيع المحلي. بعبارة أخرى، يدعم ترامب إلغاء القيود التنظيمية والحد من البيروقراطية في القطاعات الرئيسية، وخفض الضرائب على الشركات والأسر، وزيادة الاستثمارات العامة وتقديم إعانات لقطاعي التصنيع المحلي والدفاع، واتخاذ موقف حمائي للغاية في التعامل مع التجارة الخارجية.
ولكن من وجهة نظرنا، من المهم الفصل بين خطابه والحقائق على أرض الواقع وعملية صنع القرارات الفعلية. فيما يتعلق بالنسخة الثانية من سياسة "أمريكا أولاً"، فإن الفصل بين هذه العناصر أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالموضوعات المهمة مثل السياسات المالية، والتجارة الخارجية، والهجرة.
QNB
أولاً، على المستوى المالي، يبدو ترامب ملتزماً بالفعل بمزيج من التخفيضات الضريبية والمبادرات المبتكرة لتحسين الإنفاق. خلال حملته الانتخابية، اقترح ترامب خفض الضرائب على الشركات من 21% إلى 15%، مما يؤكد التزامه بالاستراتيجية التي حقق من خلالها نتائج في ولايته الأولى كرئيس. وتجدر الإشارة إلى أنه من المرجح أن يتم تحت رئاسته أيضاً تمديد تخفيضات ضرائب الأفراد التي وافق عليها في عام 2017، والتي من المقرر أن تنتهي في نهاية عام 2025. ومن المتوقع أن تؤدي هذه التدابير المالية مجتمعة إلى خفض الدخل الحكومي بمقدار 3 تريليون دولار أمريكي إلى 4 تريليون دولار أمريكي.
ومن أجل تحقيق التوازن حيال هذا الانخفاض في الدخل، يقترح ترامب خطة كفاءة حكومية طموحة لخفض الإنفاق المالي بما يصل إلى 2 تريليون دولار أميركي. وسوف يتم تنفيذ هذه المبادرة من خلال لجنة كفاءة حكومية جديدة من المقرر أن يقودها إيلون ماسك، رجل الأعمال الملياردير المعروف بقدرته الهائلة على إعادة ترتيب سلاسل التوريد لتقليل التكاليف وتسريع وقت التسويق. وإذا نجحت مبادرة ترامب/ماسك، فإن الموقف المالي الجديد سيكون مؤاتياً للقطاع الخاص، مما يحفز المزيد من الاستهلاك والاستثمارات دون خلق ضغوط إضافية على الوضع المالي الحكومي.
ثانياً، فيما يتعلق بالتجارة، من المتوقع أن يعيد ترامب إطلاق أجندته الحمائية. خلال الحملة، اقترح الرئيس المنتخب فرض تعريفات جمركية أعلى بنسبة 10% كحد أدنى على الواردات من بقية دول العالم وبنسبة 60% على الواردات الصينية. وإذا تم تنفيذ هذا الاقتراح بشكل كامل، فمن المرجح أن يخلق صدمة كبيرة في تدفقات التجارة والاستثمار. وقد ترد دول أخرى بالمثل، مما قد يخلق دوامة من سياسات "إفقار الجار" عبر التنافس في خفض قيمة العملات وزيادة التعريفات الجمركية. وسوف يكون هذا سلبياً بالنسبة للمستهلكين على مستوى العالم، حيث سيزيد من التكاليف وسيؤدي إلى انعدام الكفاءة. ومع ذلك، لا نتوقع أن ينفذ ترامب وعوده المتعلقة بأجندته التجارية بالكامل. ونعتقد أن موقفه المتشدد في السياسة التجارية مصمم لزيادة النفوذ في المفاوضات التجارية مع الشركاء والمنافسين الرئيسيين، وخاصة الاتحاد الأوروبي والصين. ويريد ترامب انتزاع تنازلات ثنائية من خلال إلغاء القيود المفروضة على السلع والخدمات الأميركية في الخارج، فضلاً عن تأمين الالتزامات للاستثمارات الأجنبية المباشرة الكبيرة في الولايات المتحدة. وهذا سيكون مماثلاً لنهج ولايته السابقة، ربما مع التركيز بشكل أكبر على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي تعد مهمة لخلق الزخم لأجندة إعادة عمليات التصنيع إلى البر الأمريكي والنهوض بقطاع التصنيع الأميركي من جديد. 
ثالثاً، فيما يتعلق بالهجرة، من المتوقع أن يخفف ترامب من لهجته ويتبنى موقفاً واقعياً أكثر الآن بعد انتهاء الحملة. وخلال الحملة، اقترح ترامب ليس فقط الترحيل الجماعي لحوالي 15 إلى 20 مليون مهاجر غير شرعي، بل وأيضاً تقييد تدفق المهاجرين الشرعيين من حاملي التأشيرات. وهذا من شأنه أن يساهم في تشديد ظروف العمل، وخاصة في مجال العمل بنظام الساعة في الوظائف ذات الأجور المنخفضة. ولكن نظراً لأهمية نمو المعروض الإضافي من العمالة في قطاع الخدمات والآفاق الإيجابية للتركيبة السكانية الأكثر ملاءمة للاقتصاد الأميركي، فإننا لا نتوقع تنفيذ هذه التدابير. بل من المرجح أن يأتي ترامب بنهج يخفف من ضوابط الفحص الأكثر صرامة للمهاجرين الشرعيين والترحيل المحدود والمستهدف لفئات محددة لا يتم دمجها بشكل جيد في الاقتصاد الأميركي. وبالتالي، فإن التأثير السلبي المحتمل على النمو الناجم عن انخفاض الهجرة وضعف التركيبة السكانية سيكون محدوداً.
بشكل عام، من شأن الولاية الثانية للرئيس ترامب أن تجلب تغييراً كبيراً في الأجندة الاقتصادية الأميركية، وخاصة في مجالات المالية والتجارة والهجرة. ومع ذلك، بالنظر إليها مجتمعة، فإن الأجندة المقترحة يرجح أن تكون أقل تطرفاً مما تشير إليه وعود الحملة الانتخابية، كما من شأن آفاق النمو في الولايات المتحدة أن تظل إيجابية مع توسع الناتج المحلي الإجمالي المتوقع في الأمد الطويل بنسبة 2.5 إلى 3% سنوياً.

مكنك أيضاً تنزيل نسخة PDF من التقرير   عربي    و   English